انظر لآلاف الأزهار المُختلفة، لا تجد زهرة فيها قبيحة كلها مصممة بطريقة جميلة تسر الناظرين، ولكن، هل الجمال يكمن في الزهرة؟ أم أنّ الجمال أمرٌ يراه الشخص نفسه وينبع من داخله؟ هذا السؤال وغيره يطرحه علم الجمال (الأستطيقا) وهو علم يبحث في الإدراك الحسي لفلسفة الجمال والتعبير عن الجمال وفلسفة الفن، وما هي الصفات المُشتركة بين الأشياء الجميلة، أو لعلها ليست جميلة، بل تُولّد فينا شعوراً بالجمال.
كان كانط يرى أنّ الخبرة الجمالية ليست مرتبطة بالنشاط النظري للعقل، وليست مرتبطة بالنشاط العلمي المتصل بالسُلُوك الأخلاقي، بل تنبع من الشعور باللذة الذي يستند إلى اللعب الحر بين الخيال والذهن، أما أفلاطون فيرى أنّ الجمال نابع من عالم المثل، وإنّ تحقق الجمال في الزهرة وفي غروب الشمس، فهي تبقى مُجرَّد محاكاة للجمال ذاته، ولا يرتقي لعالم المُثل، لكن فكرة المُثل هذه عند أفلاطون يمكن دحضها حينما نفكر بالجمال أكثر، فالجمال أمرٌ نسبيٌ يختلف من شخص إلى آخر، فحينما نستحضر صورة للشجرة المثالية أو المرأة المثالية، فإنها ستختلف كثيراً من شخص إلى آخر، ولو كنا نمتلك جهازاً يقيس ما في داخل العقل البشري من أفكار حول البيت الكامل، والشجرة الكاملة، والمرأة الكاملة، والرجل الكامل، وغيرها من الصور الكاملة لرأينا اختلافات عديدة بناءً على الثقافة، بناءً على الحس المعرفي والتجارب، فيرى رجل ما أنّ المرأة القصيرة الممتلئة هي الجمال بعينه، فهي لربما تذكره بعمته أو بخالته أو بزميلته التي كان يراها قمة الجمال، وشخص آخر يرى البيضاء الطويلة هي المثال، وشخص ثالث يرى السمراء النحيفة، شخص رابع يرى القمحية ذات الشعر الداكن وهكذا، فمن أين جاء كلٍّ منهم بصورة مثالية من عالم مثالي واحد! هذا يعني أنّ الصورة المثالية وليدة تجاربنا وليست موروثة من عالم آخر، صحيح أنّ أفلاطون يطلق مسمى الحراس على القلة القليلة التي تمتلك الذكاء والموهبة العالية لرؤية الصورة الخالصة الأصلية، وليس كل من امتلك عيناً ملك عقلاً، إلا أنها تبقى نظرة بعيدة عن الوحدوية أو الفردية، فكل إنسان يرى العالم بعينه الخاصة، وهي نظرة صحيحة ومميزة عن أي شخص آخر.
وفي سؤال كيف يُحكم على شيء ما أنّه جميل؟ يرى كانط أنّ الجمال مصدره ذات الإنسان، وأنه لا يرجع إلى الأشياء، ومع هذا فهو ليس ذاتياً صرفاً وليس مُجرَّد شعور نفسي، وفيه الشروط السابقة على الخبرة الحسية، والشيء الجميل لا يندرج تحت تصور ذهني مُحدد، وهو حكم منطقي خاص وليس عام، فحكمي على زهرة بأنها جميلة لا يعني أني أرى أنّ كل الزهور جميلة، وموضوعات الطبيعة كالأشجار والبحار والطيور لا تكتسب قيمة جمالية إلا عبر الذوق الفني والرؤية المدربة التي تراها مادةً للتعبير الجميل، أما عن الجمال الفني فيري هيغل أنه أرقى من الجمال الطبيعي؛ لأنه جمال متولد من الروح، ورأى الفيلسوف الإيطالي كروتشه أنّ الفن هو بمثابة التعبير عن الحدس، والمنشود من الفن هو الشعور بالمتعة واللذة، فبعد أن تشاهد أغنية جميلة أو عملاً فنياً أنت تعبر عن استمتاعك به، لذلك الإدراك الجمالي هو حكم الأحاسيس، أما مرجع الجمال هو الحكم العاطفي.
لكن، ما الذي يفسر اللمسة الجمالية عند البشر من ناحية تطورية؟ هل الشعور بدفء الألوان أو الاستمتاع بصوت الحسون أمر يساعد الإنسان على البقاء والتغلب على الطبيعة! سؤال آخر: لماذا هذا الانتشار للجمال في الطبيعة؟ الألوان المُختلفة والأصوات المتناغمة، والأشكال الهندسية، والكائنات المتناسقة والتكامل بين كل هذا وذاك، هل جمال الأزهار كما يقال لكي تجذب الحشرات؟ الحشرات يجذبها اللون، ولكن ما سر تناسق الشكل والجمال مع اللون والرائحة والترتيب؟ ما سر تناسق ألوان الريش في الطيور؟ وما سر جمال ورقة الموز حينما تنظر لها؟ فما دامت الصدفة والعشوائية لا يفسران هذا الأمر، فحتماً، هُنَاك تفسيرٌ آخر، لأن العلة لها داعٍ في هذه الحالة.
ثم تشعر أنّ العين البشرية تتناسق مع هذا الجمال، وكأنها خُلقت لتراه، هما مخلوقان يكملان بعضهما البعض، وإلا لو أوجدت الطبيعة أشياءها صدفة لما كان هُنَاك كل هذا الحس الجمالي، لرأيت العالم مكاناً موحشاً، ألوانه غير متناسقة، أشجاره مخيفة، وحيواناته مشوهة، كيف تختار الزهرة هذا الشكل الجميل تطورياً؟ وكيف تنتج الشجرة هذا التنسيق الهائل في كل أجزاءها؟ بل حتى في نموها، تراها مُهَندسة على الجمال، وكأن الجمال مودع فيها في كل أجزائها، راقب شجرة تنمو من بذرة، وستشعر كأن قلبك يَوَدُّ لو يضُمها، فهي تغذي لديك جانباً ناقصاً في صميم قلبك، لماذا تُودِع هذه النبتة الجمال فيك، لماذا يُودِع الطاووس الجمال فيك؟ إنه جمال صُمم لنا لكي نراه، ولم يأتِ اعتباطاً.
إنّ تنسيق ورقة الشجرة وشكلها الهندسي لا يُفسران حاجة الشجرة للورقة، الكلوروفيل واللون الأخضر مفهوم أنهما أساسيان لبقاء الشجرة، لكن ترتيب الساق والأوراق وعدم وجود عشوائية في مواضع إخراج الأغصان والأوراق وجمال الخطوط في الورقة، وإخراج الشجرة لأزهار جذابة للبشر قد لا تكون جذابة للحشرات، لا علاقة له ببقاء الشجرة على قيد الحياة.
لقد سلّم داروين بهذه الفكرة، وقال إنّ الطبيعة لا تفسر هذه المواهب الفطرية في الموسيقى والفن والجمال، والاستمتاع بها مع وجود ملكاتها لا يعود على الإنسان بأي منفعة، ويجب تصنيفها في أكثر الملكات الغامضة، كيف نفسر الإبداع الهندسي في مليارات الكسف الثلجية الفريدة بذاتها، أو إبداع قوس قزح، أو التناسق اللوني في غروب الشمس واستمتاع العين البشرية بإشاراتها الكهربائية وهي كلها عمليات فيزيائية وكيميائية محضة! كيف سار التصميم كاملاً في كل خطوة عشوائية لنخرج بهذا الجمال المُدهش، إنّ وجود شريط مكتوب في الدنا يفهم الجمال الموجود في تلاطم أمواج البحر أو الجمال الموجود في كوكب الأرض أمرٌ مخطط له مسبقاً، تستطيع أن تصنع سيارة لتنقل البشر، وستؤدي غرضها، سواء كانت جميلة ومطلية أم لا، ولكنك تضيف الطلاء ليحبها البشر.
وقد رأى أفلاطون أنّ النفس البشرية تُحركها قوة عظيمة جداً هي قوة الحب، وتدل هذه القوة على الحرمان أكثر مما تدل على الكمال، وهذا الحرمان يجعل الإنسان جائعاً للمزيد من الحب لتعويض النقص الكائن، ولكن ماذا يشتهي الحب في المقابل؟
الجمال، نعم إنه يشتهي الجمال، فهو دائماً ما يردم الحرمان، ولكن ما هي قمة الجمال عند الإنسان؟ هل الجمال الجسدي الذي يشبع الحب؟ أم شيءٌ آخر؟
فالجمال البشري مُتشابه بين الأجسام وهو واحد في المعاني، وبهذا تقل حدة الجمال بين الأجسام ولا يبقى جسدٌ واحدٌ مُميّزٌ لدى النفس، وهذا الجمال جمال محسوس والمحسوس متغير، والمتغير إلى فناء.
إنّ هذا الجمال المُدرَك عن طريق العقل يُغذي صفةً في النفس، فهو جمال نفسي يبحث عن شبيه له، والجمال النفسي معنوي وليس جسدي، والجمال المعنوي يوجد في الأدب والشعر والفن والرسم، هو جمال تأملي نظري وليس ملمسياً، هو طعام للروح أكثر منه طعام للجسد [161].
يتكشّف لنا في هذه اللحظة وجود جمال أزلي خارج عن جمال الكون الفاني الناقص، جمال كامل لا يعتريه نقصٌ أو فساد، وهو جمال يتفق جميع البشر في تعريفه وقبوله، إنه جمال في ذاته وليس في أجزائه، جمال فريد عزيز كريم، إنه جمالٌ مطلق، إنه الله، الوحيد الجميل الخالي من الفعل.
لقد لعب الجمال دوراً مهماً في الاكتشافات العلمية، فهو أحد الأسباب التي دفعت العلماء إلى اكتشاف الدنا، وهو سبب رفض بعض النظريات والمعادلات، فالقوانين الجميلة تنسجم مع الطبيعة والنفس البشرية، إذ يقول العالم ويلر “إنّ كل قانون من قوانين الفيزياء، مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة”، وقانون نيوتن الثالث مثال على ذلك، إذ لكل فعل رد فعل مساو له المقدار ومعاكس له الاتجاه، وهو التماثل نفسه في الجزيئات الذرية، فلكل جسم ذري، جسم ذري مضاد له، وكأن الطبيعة كلها منسجمة وتفهم بعضها وقد وضعت على شكل جمالي واحد مشترك، وكما رأينا فقوانين نيوتن أعطت مفهوماً واحداً لحركة الكواكب ولسقوط الأجسام ولظاهرة المد والجزر، فالنظريات الجميلة تستطيع أن تجمع بين ظواهر مختلفة وتربطها ببعضها بقانون واحد لطيف، وهذا ما أتمه أينشتاين بنظريته النسبية العامة، فمن شدة جمالها، فسرت ظواهر شديدة الاختلاف في معادلة واحدة.
إن كانت الصدفة تقف عاجزة عن تفسير هذا الجمال، فلا بدَّ من شيء آخر يفسره، حتماً لا محالة، لذة الجمال والفن والموسيقى والخضرة والماء والوجه الحسن والشعر لا تفسير عشوائي لها، ويشير الجمال إلى أمراً روحياً وليس مادياً، فأنا لا أستطيع أن أقول لزوجتي، إنّ ذرات وجهك منتظمة بطريقة رياضية، لكن لأصل إلى مبتغاي أقول: أنت أجمل الجميلات يا زوجتي العزيزة.
والنور يبني في السّفوح وفي الذّرى ……. دوراً مزخرفة وحيناً يهدم
فكأنّه الفنّان يعرض عابثاً ………. آياته قدّام من يتعلّم
وكأنّه لصفائه وسنائه….. بحر تعوم به الطّيور الحوّم
فأي مقطع عبثي في هذا الكون لهو لوحة فنية تسر الناظرين وتأسرهم، وتتساءل الفلسفة: أليس من خلق الجمال، قد أودع في النفس البشرية الإحساس به وفهم السر الدفين به، ومنحها قدرة فك لغز هذا الفن بالعقل المادي! وإلا كيف لهذا الإحساس أن ينتج، وكيف لهذا التكامل أن يحدث، إنه ليس أي تكامل، إنه تكامل المفتاح والقفل، العاشق والمعشوق، الرسام والمشاهد، المادة والروح، الخالق والمخلوق.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.