لا أعلم من أين أبدأ في هذه الورقات، فعجائب الكائنات الحية من حيث التركيب أو التنظيم أو التشغيل مُدهشةٌ وتأسر العقل والخيال، حاول أن تنظر إلى أي كتاب لفسيولوجيا جسم الإنسان أو للكيمياء الحيوية، ستدهشك التصاميم والتنظيم الفائقين في بناء الكائنات، أي كتاب في علم الخلية أو في علم الفيروسات أو علم البكتيريا أو علم النبات سيحول دماغك إلى خلايا غير متجانسة، إلى بروتينات وأحماض أمينية لا يمكن تجميعها مرة أخرى، فمن أبسط الظواهر في الخلية كما تطرقنا إلى جزء منها، إلى أبسط الظواهر في عالم النبات، إلى تعقيد عمليات البناء الداخلية والمستشعرات الخاصة، إلى عمليات جسم الإنسان من عمل القلب والرئة والدماغ والكبد والتنسيق بينهم، على سبيل المثال تبث خلايا النسيج الدهني رسائل للدماغ بأننا قد اكتفينا بحاجتنا، فتوقف عن الأكل وأوقف الشهية، فيقوم الدماغ بإرسال رد إلى كل الأعضاء المرتبطة، توقفوا عن الجوع، توقفي أيتها المعدة عن القرقرة، توقفي عن إحساسك بالتعب أيتها العضلات ها قد أتاكِ الحليب، والعجب من إصلاح التلف وبناء الجديد في الأنسجة والخلايا والتنسيق العالي في جهاز المناعة المُدهش إلى آليات حرق الدهون ومن ثم العضلات وغيرها من الآليات، كل خلية ترسل مجموعة من الرسائل حولها بتصميم ذكي، حتى الخلايا السرطانية هي من تصميم الجسم وتفرز رسائل معينة، وهذا ما أدى إلى وجود فحوصات سريعة لاكتشاف السرطان عبر الجزئيات المرسلة، والخلايا المناعية قد تستقبل رسائل بالخطأ فتسبب مرضاً مناعياً Autoimmune، مثل الروماتويد الذي يقلب حياة الإنسان بالكامل، وصور كثيرة لا نهائية عن دقة الكائنات الحية.
يمكننا النظر إلى عملية النوم الغريبة التي يقوم بها الكائن الحي عبر أخذ قسط من الراحة التي تساهم في عملية تجديد الخلايا والأنسجة والأعضاء، وتزويد الجسم بالطاقة وتسريع عمليات الاستشفاء العقلي والنفسي، وهي عملية متناغمة مع عمليات الكائن الأخرى كالإدراك والحركات الإرادية، فالنوم لساعات مُحددة تتعارف عليه كل الأعضاء في السياق الحيوي نفسه وكأن المصمم قد وضع البُنود كلها مرة واحدة في كتاب تعليمات، ثم طبقه على الكائن الحي بعد أن تأكد من فعاليته.
ثم هُنَاك التكامل الدقيق في كيمياء الجسم، فأي مادة كيميائية جديدة تدخل إلى الجسم تقوم بالتأثير على أجزاء واسعة منه، انظر إلى العُلماء حينما يقومون بتطوير دواء ما، إنهم يستغرقون وقتاً طويلاً في تعديله كيميائياً تحت إطار علم يسمىStructure Activity Relationship، وذلك لتقليل ضرر الدواء على الإنسان، ومع هذا نجد بعد التعديلات التي لا تحصى تأثيراتٍ جانبية سيئة للأدوية على جسم الإنسان لما تحدثه من تفاعلات مع المواد الأخرى فيه، وهذا ما تحاول كيمياء النانو حلّه وذلك عبر تصنيع دواء مخصص لنسيج مُحدد لا يؤثر على غيره.
وحينما يصِف لك الطبيب دواءً معيناً، تجده يحذرك أنّ هذه المادة لا يمكن أخذها مع مادة أخرى أو طعام آخر لأنها تتفاعل أو يتغير مفعولها أو ربما تتلف، فعلى سبيل المثال لا يمكنك تناول البنسلين مع مضاد حيوي آخر من عائلة الأمينوجليكوسيد في نفس التركيبة الصيدلانية (الحقنة نفسها على سبيل المثال)، لأن أحدهما حامضي والآخر قلوي، فسيتفاعلان وينتج ملح في النهاية، ولا يمكنك تناول مضاد الالتهابات الديكلوفين مع الأسبيرين وهو أيضاً للالتهابات من عائلة NSAID نفسها لأنهما يحفزان تأثير بعضهما ويسببان نزيفاً دموياً، وصور كثيرة لا نهائية من التفاعلات والتداخلات المسجلة التي تجعل كل مادة كيميائية مهما كانت بسيطة تشكل خطراً على باقي مواد الجسم.
انظر إلى جسم الطفل الرضيع، لا يمكننا أن نصف له بعض الأدوية التي نصفها للبالغين، فعلى سبيل المثال يُمنع إعطاء الطفل مضاد حيوي مثل السيفترياكزون Ceftriaxone لأنه يرتبط ببروتين الألبومين Albumin الذي يرتبط به مركب البيليروبين Bilirubin، فيصبح البيليروبين حراً في جسد الطفل ويسبب له الصفار أو اليرقان Jaundice [124]، ومئات أو آلاف الأمثلة في دقة التفاعلات الكيميائية داخل جسم الإنسان وأنّ أي تغيير بسيط أو دخول مادة جديدة ستدمر كل النظام.
حتى الحيوانات البسيطة مثل كينورهابدايتس إيليجانس، وهي دودة مستديرة في حجم الفاصلة وطولها أقل من مليمتر واحد من فصيلة الديدان الخيطية التي ربما تمثل 80% من الحيوانات في العالم، بالرغم من أنها لا تمتلك دماغاً، إلا أنها تمتلك نظاماً عصبياً وآلية اهتزاز وقناة هضمية وقدرة على وضع البيض، فتبدأ حياتها بخلايا يبلغ عددها ١٠٩٠ خلية، تموت ١٣١ خلية منها خلال عملية الاستماتة أثناء النمو، وهُنَاك ٣٠٢ خلية عصبية من الخلايا الإجمالية تعيش داخل التربة وتتغذى على البكتيريا وتتكاثر عادةً كخنثى، عبر الإنتاج المتعاقب للحيوانات المنوية ثم البويضات، هُنَاك دودة واحدة ذكر من كل ٢٠٠٠ دودة، وبالنظر لحجمها تحتوي دودة كينورهابدايتس إيليجانس بشكل مُثير للدهشة على عدد كبير من الجينات نحو ٢٠ ألفاً، ونحن نعلم أنّ الإنسان المغرور لديه نحو ٢٤ ألفاً، مليارات الخلايا الإضافية والأجهزة المُعقَّدة والعمليات المُعقَّدة والمحصلة أربعة آلاف جين زيادة على كائن مكون من 1090 خلية! وكثير من جينات هذه الدودة خاصة بعملية انقسام الخلايا ٪٥٠ منها تشترك فيه مع ثمرة الموز، كما أنّ ثلثها له مثيل مباشر في الإنسان، لا أريدك أن تذهب بعيداً وتقول أصل الإنسان دودة، إياك أن تكون طالباً غير نجيب [10].
نشاهد النحل يتواصل بالرقص، والنمل يتكلم بالكيمياء فيما بينه ويتفاهم، ويقوم بتربية المن في غرف مخصصة لحلبها لاحقاً وكأنه راعٍ مَن واعٍ، والنملة تهاجم مخلوقات أكبر منها وتغرس سماً عصبياً فيقتلها وفق آلية ذكية تشير إلى معرفة النملة بأعصاب المخلوقات الأخرى وكأنها درست كيمياء حيوية، غرائب النمل وعجائبه كثيرة لن تنتهي، كل ما يسعني قوله هو أنً كل كائن حي عبارة عن نظام مُعقَّد متكامل مُختلف له من العجائب ما يأسر العقول.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.