الباب الأول: الكون
التجرد
وفي رحلة التساؤلات، ينبغي للباحث أن يتجرد للوصول إلى الحقيقة، وألا يلتفت لِما وجد عليه آباءه وأجداده، بل يجب عليه أن يتحرر من كل فكرٍ وقيد، ويقف عند كل كبيرةٍ وصغيرةٍ، مهما كانت سابقاً خطاً أحمراً لا يمكن تجاوزه، أعترف أنّ محاولات التجرد الكامل صعبةٌ نوعاً ما، فالإنسان نتاج بيئته الثقافية وما تم نقشه في وجدانه ووعيه كما يقول إبراهيم البليهي:
“إنّ الإنسانَ يولد بقابلياتٍ وليس بقناعات، وقابليةُ ما ترسمه البيئة في العقل هي ما يجعل ذلك قناعةً عنده تصل إلى أن يموت لأجلها سواء كانت صائبة أم خاطئة”.
هذا التجرد سيأخذنا إلى الأسئلة الأولى: مَن أنا؟ ومِن أينَ أتيتُ؟ وماذا أُريد؟ وما هو الكون؟ وكيف أتى؟ ومن أوجَده؟ وهل أوجد نفسَه بنفسِه؟ وغيرها من الأسئلة كالتي يطرحها الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة الطلاسم:
جِئتُ، لا أعلَمُ مِن أَين، ولكِنّي أتَيتُ ….. وَلَقَد أَبصرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشيتُ
وَسَأبقى مَاشياً إن شِئتُ هذا أم أبيتُ ….. كَيفَ جِئتُ؟ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي؟
لَستُ أَدري!
أَجَديدٌ أَم قَديمٌ أَنا فِي هَذا الوُجود ….. هَل أَنا حُرٌّ طَليقٌ أَم أَسيرٌ في قُيود
هَل أَنا قَائد نفسي في حَياتي أم مَقُود ….. أتمنّى أنّني أدري وَلَكن…
لَستُ أَدري!
وَطَريقي، مَا طَريقي؟ أَطويلٌ أم قَصير؟ ….. هَل أنا أَصعدُ أَم أَهبِطُ فيهِ وأغُور
أَأَنا السّائرُ في الدّربِ أمِ الدّربُ يَسير ….. أَم كلاّنا وَاقفٌ وَالدّهر يَجري؟
لَستُ أَدري!
أَتُراني قَبلما أصبحتُ إِنساناً سَوِيّاً ….. أَتُراني كُنتُ مَحواً أَم تُراني كُنتُ شَيئاً
أَلِهذا اللُغزُ حَلٌ أَم سَيَبقى أَبَدِياً ….. لَستُ أَدري، وَلِمَاذا لَستُ أَدري؟
لَستُ أَدري!
لم تكُن الإجابة على تلك التساؤلات سهلةً أبداً؛ فقد انقسم العالم إلى رأيين مُختلفين: يرى أصحاب الرأي الأول أنّ الكون قد أوجد نفسَه بنفسِه، وأننا وصلنا إلى ما نحن عليه بواسطة مجموعة من العمليات مصدرها العشوائية والصدفة، في حين يؤمن أصحاب الرأي الثاني بأنّ هُنَاك قوةً عظيمةً هي من أوجدت هذا الكون وأوجدتنا، ولكل أصحاب رأي نظريتُهم الخاصة وعالمهم الخاص، وعليك أن تأخذ كل ما فيه دفعةً واحدةً، إذ لا يمكن الجمع بينهما.
ومن البديهي أنّ مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، إلا أنّ هذا المشوار انقسم إلى طريقين توجب السير فيهما على انعكاسهما، قد لا يكفي ضعف ضعف عمري للسير فيهما؛ لذلك كان لزاماً عليّ السير مُسرعاً وقراءة كتب السابقين، وهذا كله في محاولة للوصول إلى نهاية الطريق، حيث أجد الراحة.
الطريق الأول: طريق الكون الذي أوجد نفسَه بنفسِه، وهو ما يُسمى بطريق الطبيعة، أو طريق المادة، ويُسمي أصحاب هذا الطريق أنفسهم بالعقلانيين، ويُطلق عليه أصحاب الطريق الثاني طريق الإلحاد، أو الكفر، وغيرها من المُسميات، ونحن سنتنقل بين هذه المسميات المُختلفة للإشارة إلى طريق الصدفة هذا.
الطريق الثاني: طريق القوة العظمى التي أوجدت الكون، وهي ما تُسمى بطريق الخالق، أو طريق الألوهية، ويُسمي أصحاب هذا الطريق أنفسهم بالمُؤمِنين وأصحاب الديانات، وغيرها من المُسميات، ونحن سنتنقل أيضاً بين تلك المُسميات المُختلفة للإشارة إلى طريق الخلق هذا.
يعتقد من يُؤمن بالفلسفة المادية أنّ الكون المادي هو الحقيقة الوحيدة الموجودة، وأنّ الكون سرمديٌ؛ لا بداية ولا نهاية له، ولا خالق أو غاية، وأنّ وجودنا حدث نتيجةً لتفاعل القوانين الكونية الفيزيائية، وقد تطور الكون شيئاً فشيئاً إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه.
وما كل ما في هذا العالم الفسيح من تكوّن المجرات، وحركة النجوم، ونشوء الحياة، ووجود الإنسان، وغيره، ما هو إلا نتاجٌ للعالم المادي عبر سلسلة من التفاعلات والقوانين المادية البحتة، دون الحاجة إلى خالق أو قوة عليا أو تصميمٍ أو غاية، فكل الكائنات نشأت نتيجة لعمليات المادة، ومفاهيم مثل الوعي وحُريّة الاختيار ليست حقيقية كما نعتقد، وما أفكار الإنسان وقراراته وحركاته وتفاعلاته مع ما يدور حوله إلا نتيجةٌ لتفاعلاته الكيميائية وقوانين الطبيعة في تلك اللحظة.
شكل 1 مفترق الطريق
أما من يؤمن بالفلسفة الإيمانية فيعتقد وجود قوة أكبر من الكون والطبيعة، وأنها صانعة الكون بإرادة ذكية ولهدف مُحدد، وتَعتبِر أغلب الفلسفات الأُلوهية أنّ الإنسان مخلوق من جزأين: جزء مادي وجزء غير مادي (الجسد والروح). إذ يُعَد الجسد جزءاً من هذا العالم المادي يتفاعل معه ويتأثر به، وتعطي الروح للإنسان طبيعة متعالية عن المادة، والروح هي صاحبة القرار الحقيقي في الإنسان.
هذا لا ينفي وجود من يؤمن بالفلسفة المادية مع إيمانه بوجود خالق أو غيره على سبيل المثال، لكن في الصورة المجردة، توجد هاتين الصورتين، كما أنّ هذا قد يكون مدعاة للتداخل بين المفهوم المادي الفلسفي والفيزيائي العلمي.
ولمعرفة الحقيقة علينا أن نفهم وآلية عمل هذا الكون، ولا سبيل لفهمه دون فهم علومه، ويأتي على رأسها علم الفيزياء، وهي الخطوة الأولى في طريق البحث نحو الحقيقة
شكل 2 التطور أم الخلق
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.