الاستدلال

إحدى عقبات تفاهم البشر أنهم يتواصلون عبر اللُغة، فالكلمات حمّالة أوجه ومعانٍ عدة، فمعاني هذه الكلمات تتغير من زمن إلى زمن، فكلمة عصابة قديماً تختلف عن عصابة حديثاً، واللبن هو مخيض الحليب في بعض اللهجات وفي لهجات أخرى الحليب هو مخيض اللبن، فلو قرأت كتاباً قديماً أو مُختلف الثقافة بعض الشيء، قد تُسيء فهم المقصود منه، إنّ معضلة الكلمات لا يمكن الفكاك منها عند البشر.

 فجملة بسيطة مثل قلبه كبير لها عدة دلالات ومدلولات، وحسب الموضع المستخدمة فيه يمكن فهم معناها (دال ومدلول)، فحينما نقول في فلسطين قلبه كبير (الدال) تشير إلى أنه شخص طيب ومتسامح (المدلول)، أما لو سمعناها في مصر (الدال) فتدل على أنه رجل يعشق الجميع (المدلول)، وفي مجتمع آخر تعطي انطباعاً أنه رجل يحب النساء، وربما تشير في المغرب العربي إلى رجل رياضي وهكذا، فالألفاظ والمصطلحات تترك دلالات معينة في عقولنا نتيجة الثقافة التي نشأنها عليها منذ الصغر، وفي الغالب نحن البشر نقوم بإسقاط المعنى الذي ورثناه من البيئة على المعنى في النصوص، حتى الكلمات البسيطة مثل أكل وضرب تمتلك معانٍ عدة في اللُغة بحسب المجتمع الذي ذكرت فيه.

حتى المصطلحات التي من المفترض أن تكون موحدة نجد فيها اختلافاً في الدلالة، فمن المفترض أنّ كلمة العدل عند الجميع نابعة من كونها كلمة مُجرَّدة جامعة لأسمى معاني المساواة والإنصاف وعدم الظلم وغيرها، لكن قد يراها شخصاً أبيضاً عاش في أمريكا في القرن الثامن عشر أن يعيش الشخص الأسود على رغيفين في اليوم بدلاً من رغيف، هذا العدل لديه، ونحن نراها أن يعيش الأسود والأبيض في المجتمع سواسية لا فرق بينهم على الإطلاق، ومُغالَطة الأكثرية يجب ألا تنطلي علينا بعد الآن.

بل حتى الكلمات المُجرَّدة والجامدة تختلف الدلالات فيها من فرد لآخر، فلفظة ساعة قد تخطر في ذهن السامع على أنها ساعة حائط، بينما يتخيل آخر ساعة يد، وربما يتشكل رقم6 بجانبه صفرين (06:00) في ذهن ثالث، وقد يتخيل أحدهم صورة مزولة، كذلك الأمر لو قلنا سيدة جميلة، فهُنَاك من يتخيل هيفا، وهُنَاك من يتخيل مونيكا، وهُنَاك من يتخيل جارته، وهُنَاك من يتخيل سيدة مريضة بمرض عضال غريب ولكنها بالنسبة له قمة الجمال، وقِس على ذلك كل المصطلحات التي نعتبرها مُجرَّدة، لهذا الأمر لا تستطيع إيصال المعنى الذي تقصده تماماً، ومن المؤسف أننا لا نمتلك طريقة أخرى للتواصل كالتخاطر مثلاً كأن أضع ما أتخيّل بالضبط في عقلك مباشرة، لأوصل لك ما في داخل دماغي من فكرة كاملة وبالمعنى الذي أقصده، وفي أي حديث أو تصور يجب تحرير المصطلح من الاعتبارات الثقافية والإرث السابق كي يستطيع المنطق أن يتحدث بلُغة أقرب للجميع.

لوحات فنية عالمية مشهورة

رسم توضيحي 57 تُعتبَر لوحة ثبات الذاكرة، والتي تسمى أيضاً إصرار الذاكرة، من أشهر اللوحات العالمية للفنان الإيطالي سلفادور دالي، وقام برسمها عام 1931م، تثير هذه اللوحة أسئلة حول فلسفة الزمن، وكيفية رؤيته بمناظير مُختلفة، ومفاهيم متنوعة.

ولعلك تجد اثنين يتناقشان في جزئية ضيقة جداً فتقول يا لعقولهم! إنّ العدل معروف ومفهوم، ولكنا بتنا نعرف أنّ التصور والتصديق أمران مُختلفان من شخص لآخر حسب خبراته وثقافته، فالمسألة الزنبورية التي شغلت العالم قبل قرون، مسألة تافهة في وجهة نظر غير المختصين، ولكنها أخذت حجماً كبيراً لأن المختصين يرونها جوهرية وذات دلالات مُختلفة، فكثير من المسائل قد تكون في نظرك بسيطة إلا أنها ذات قيمة في نظر غيرك، ففي بيت شعر لأحمد شوقي يقول فيه:

وطَني لَو شغِلتُ بِالخلدِ عَنهُ نازَعَتني إِلَيهِ في الخلدِ نَفسي

يقول فيه الشاعر حرفياً أنني حتى لو كنت في الجنة فإنني سأشتاق إلى وطني، وهذا معنىً فاسدٌ بالنسبة للمُؤمِنين، لأنّ الجنة هي قمة المتع واللذات، فكيف يشتاق من في الجنة للأرض؟ وقد يستطرد هذا المُؤمِن فيقول هنا الشاعر يقصد أنّ الجنة متعها كاذبة ولن يستمتع الإنسان فيها بعكس ما يقول الله، أي أنّ شوقي لا يُسلّم بما يقوله الله، أي أنه منكِر فهو كافر، هذا التسلسل يعود إلى دلالات الوعي لديه، وللاستدلال الذي قولب به أفكاره السابقة.

وفي الحقيقة شوقي لم يقصد كل هذا، وإنما عبّرَ عن شِدّة حبه لوطنه بقوله حتى في الجنة سيشتاق إليه، وهذه الجملة كالزهرة لو تأملناها من بعيد لوجدناها زهرة جميلة، لكن لو فتّشنا فيها لوجدناها تتكون من طلع وميسم ومتاع وأجزاء حيوية ولأصبحت غير جميلة من الداخل، مثل كلمة تقبرني، فهي من بعيد جميلة وقمة الحب، ومن الداخل قبيحة جداً، لكنها في الاستدلال اللبناني تحمل أعلى معاني الحب.

يواجه الكثير من الناس مشكلات مشابهة في فهم مواضيع معينة وخصوصاً المواضيع الدينية، فأمرٌ بسيط يفعله المُسلمون مثل الأضحية أو الصدقة يُعَد أمراً عظيماً عندهم، لكن لا معنى له لشخص قادم من أوروبا، لأنه سيتساءل، وما الفائدة من توزيع اللحم على الناس؟ وما الفائدة من أن تقوم بنفسك بإخراج صدقة مالك وتبحث عن الفقير وتسلمه بنفسك؟ أليس من الأفضل أن تخصم الدولة من دخلك هذا المبلغ وتوزعه على الفقراء في آلية منظمة لا علاقة لك بها ولماذا توزع اللحم فلتعطهم الأموال ولهم الحُريّة في شراء ما يريدون، ولو جئنا بشخص من الأمازون في قرية نائية لوجد أنّ الأضحية وتوزيع الأموال باليد لها قيمة عظيمة جداً وأنها عين الصواب، لكن لو جئنا بشخص قرأ تاريخ الأمم لقال إنّ الصدقة والأضحية هي عادات وثنية، ولو جئنا بفيلسوف مُسلم لقال إنّ تسليم الصدقة باليد تطفئ نار الحقد والحسد الطبقي أو المعيشي بين الغني في محيطه مع الفقير، وتجعل الابتسامة مصاحبة للفقير حينما يرى الغني، وتجعل الغني يرى بيوت الفقراء ويدخلها ويتفكر في بذل المزيد بدلاً من كونه يسكن في برج عاجي بعيداً عن الناس تشغله أمواله وترفه عن النظر للفقراء في محيطه ما دام أنّ الدولة ستخصم المبلغ من راتبه دون أي اعتبارات أخرى!

يُقسّم المناطقة (علماء المنطق) الدلالة إلى أنواع، فهُنَاك الدلالة العقلية التي تحيلك إلى أن تقول أنّ قطعة الحلوى التي كانت في الثلاجة قد اختفت لأن أحدهم أخذها ولم تختفِ بلا سبب، وهُنَاك الدلالة الطبيعية التي تحيلك لأن تعرف أنّ احمرار وجه شاب في حضور أنثى تعني أنه خجل أو العكس، وأنّ المُصاب حينما يقول آآآآي أو أوو فهذا يعني أنه يتألم، وكذلك تجمّع الغيوم دلالة غالباً على اقتراب هطول المطر، وهُنَاك الدلالة الوضعية مثل إشارة الواي فاي wifi الآن في أي مقهى تعني أنّ هُنَاك إنترنت مجاني في الداخل، ويُسمي المنطق مثالنا السابق حول قلبه كبير بالدلالة الوضعية اللفظية، إذن في الدلالات الوضعية نفهم أنّ الألفاظ والمعاني مُتغيرة من شخص إلى آخر، ودلالة المطابقة أمرٌ ممكنٌ ولكنه نادر، لأن الأغلب هو اختلاف الدلالات والأفهام.


ويجب التوضيح أنّ هذا التعقيد يصاحبه تعقيد مضاعف في كل وحدة بنائية فيه، وكل هذا التعقيد هو لكي يُؤَدِي الحاسوب العلميات الذهنية، كل الشرح في الفصل الثاني عن عمليات مادية، ولم نتطرق إلى الشرح المنطقي أو الذهني أو كيفية عمل نظام تشغيل الإنسان في عمق الدماغ، فنحن ببساطة لا نملك شيفرات برمجية له.

رسم توضيحي 58 إحدى هيكليات معالج إنتل كور القديمة


اترك تعليقاً