أدرك ديكارت أنّ فكرة الكمال والبحث عنه لا يمكن إلا أن تأتي من مصدر أعلى كامل، لذا كان الله بالنسبة لديكارت حقيقة مطلقة، ولكن ما حدود كمال العقل البشري؟
حينما يفكر مصممو أي لعبة في إنشائها، تراهم يقومون بتخيل جزء من هذا العالم ومحاولة محاكاته على الحاسوب، وحينما يبدؤون برسم العالم داخل اللعبة فإنهم ينقلون أشياء من عالمنا إلى عالم اللعبة حتى أبسط الأشياء التي لا ننتبه لها مثل شكل القماش ونوعه وتموجاته وانحنائه وانعكاس الضوء عليه، انظر لأي لعبة قوية التصميم وباستخدام جهاز حاسوب جيد سترى تفاصيل مدهشة تعِب فيها المصممون كلها مأخوذة من عالمنا، كل ما في اللعبة عبارة عن محاولة لتطبيق ما في العالم الواقعي إلى داخل العالم الافتراضي ليحاكي الواقع والخيال المنشود، ولكن لم ينتبه أحد أنه في أعظم المحاكات، لم يأتِ المصممون بأي شيء خارج من عالمنا المألوف، وكأن حدود تفكير الإنسان هي ما ألِفه وعرفه، لا يمكنه إتيان قماش جديد، أو فكرة عالمية جديدة أو فكرة لا يوجد لها مثيل في عالمنا، حتى في أبعد تصوراتنا كما مثلاً في تصور الوحوش، ستندهش أنّ لكل وحش هُنَاك مصدر أرضي ما، قد يكون نباتاً أو حيواناً أو حتى غصن شجرة.
فالعقل البشري لا يستطيع بناء ما لم يرَه، حتى في خيالاتنا، حينما نتخيل أقصى درجات الغرابة نربطها بشيءٍ نعرفه ورأيناه سابقاً، ويرى ديفيد هيوم أنّ كل الصور المخزنة في العقل تعود إلى صور أبسط ننطلق منها ونستعملها، فالحصان الطائر هو حصان + طير أو ملاك مثلاً، وإمكانية تخيل أي شيء -حتى في الحلم- تنتج من التخيلات الأساسية هذه، وهي بالضرورة حدود عقل الإنسان.
شكل 56 صورة من فيلم بريف Brave 2012.
في فيلم Brave، استغرق العمل على شعر الأميرة ميريدا 6 أشهر لتصميمه؛ إذ يحتوي على أكثر من 1500 خصلة من الشعر المجعد، و111,700 شعرة، واستمر العمل عليه لمدة 3 سنوات.
رابط 19 CGI of Pixar Animation Inside Out |
رابط 20 Brave Behind The Scenes (2012) |
رابط 21 How Netflix’s ‘Klaus’ Made 2D Animation Look 3D | Movies Insider |
رابط 22 How Stop-Motion Movies Are Animated At The Studio |
مُجرَّد محاولة محاكاة خصلات الشعر تطلب كل هذا التصميم والتدقيق، وإن عملية إنشاء فيلم أو لعبة تستغرق الكثير من العمليات مثل اختيار الملابس وتجاعيدها والظلال والأشجار والماء والوجوه والحركات وغيرها، إذا كانت عملية المحاكاة بهذه الدقة والصعوبة فكيف نصدق أنّ الإنسان جاء نتاج صدفة ما.
شكل 57 فطر أصابع الشيطان. |
وقد يقول أحدنا: لربما أتى شخص بفكرة من خياله من خارج قفص الكون، ولكن الناس لم يستطيعوا فهم هذه الفكرة لأنها ليست من عالمهم. وهي وجهة نظر جميلة، لكن إذا حدث هذا فهذه طفرة خاصة وعلينا البحث لنتأكد في داخل أفكاره وعقله ألا صورة قبلية أو بسيطة بنى عليها هذا الخيال الجديد، وإذا حدث ولم يفهم الناس الفكرة، فإن هذا يؤكد أنّ عقول الناس لم تفهمها لأنها خارجة عن إطارهم، ولذلك رأى ديكارت أنّ أي شيء نتخيله هو موجود في عقولنا، فقال ديكارت ما فكرته أنه ما دمنا نتخيل وجود كائن كامل في خيالنا فهو موجود في عقولنا، وما دمنا نحكم على العالم بعقولنا، فهذا الكائن موجود حتماً، فإن كنا لا نزال نتخيله إذن هو موجود وممكن، صحيح أننا في إطار الحقيقة قد لا نعترف بوجوده، لكن في إطار الكائن الكامل فالخيار ممكن جداً، عظيم جداً يا ديكارت.
في سلسلة أفلام Alien التي أدهشت الجميع بفكرة الوحوش فيها، اتضح لاحقاً حتى أنّ فكرة الوحش والبيضة مستمدة من فطر Octopus Stinkhorn، في أعظم تجليات الخيال لا يمكن أن يتخيل ما لم يتعود عليه.
وبصورة أخرى فإن أقصى ما يتخيله الإنسان هو جزء مما وضعه المصمم له في اللعبة، وأكبر المبدعين في البشرية استطاعوا بفضل المصمم المبدع (الإله) إنتاج شيءٍ واحدٍ بسيط أذهلنا بشدة، فمثلاً الفنان عندما يبتكر طريقة رسم جديدة باستخدام الفحم يكون قد أبدع وأنتج شيئاً خارجاً عن المألوف من الرسم بالألوان التقليدية، وكذلك في الطب فأقصى ما يبدعه الطبيب أن يقوم بتركيب قلباً صناعياً أو نقل قلباً جديداً بدلاً من القلب الحالي ويعد هذا إبداع وثورة جديدة قام بابتكارها، وكذلك الصيدلي عندما يصنع دواءً جديداً عبر استخراجه مادة جديدة من نباتات موجودة يكون قد ابتكر شيئاً جديداً، لكن في كل الحالات كان قد أبدع هذا الفنان باستخدام شيء مما أوجده الله، فالفنان قد استخدم الفحم لإنتاج شيءٍ خارج عن المألوف في مجال الرسم، والطبيب استخدم فكرة القلب ولكن بمادة أخرى، والصيدلي استخرج الدواء من نبتة موجودة، ما أريد إيصاله أنه لم يقم أي بشري بإنتاج أو إيجاد فكرة أو شيء خارج عما أوجده الخالق لنا، لذلك لا يوجد تفكير خارج الصندوق، التفكير الإبداعي هو التفكير بما في داخل صندوق العقل.
زهرة وريشة وسحابة يصنعن فن الرسم، طائر يُزقزق يعلّم الإنسان الغناء والعزف، طائر آخر يرفرف بجناحيه يجعل فكرة الطيران أمراً ممكناً، محاكاة انسيابية الطيور وديناميكيتها أوجدت لنا الطائرات، مراقبة طائر يخيط عشه علم الإنسان الحياكة، وطائر يبني عشه بالطين على ضفاف نهرٍ ما علمه بناء المساكن، وحكمة نملة علمت الإنسان التدبير والتخزين.
ولكن ماذا عن الوعي البشري نفسه، هل يمكن محاكاته؟
إنّ فكرة ابتكار نظام له وعيٌ ذاتي أمرٌ مُستحيل كما أكد الكثير من المتخصّصين في الذكاء الاصطناعي، ويؤكد مرة أخرى عالم الأعصاب جون إكلس ذلك على حد قوله بأنه ليس هُنَاك دليل على الإطلاق بأنه يمكن أن يكون لأجهزة الحاسوب نوعاً من الوعي أو الشعور الذاتي، وكما نعرف في هذا التقدم البرمجي أنّ الذكاء الاصطناعي مُجرَّد أوامر تنفذها آلات مادية، أما الإنسان والوعي الذاتي فإنه أمر يختلف تماماً عن البرمجيات الحديثة بفضل هذه الكيفيات المحسوسة.
وقد قدم جون سيرل صورة أقرب لفهم الوعي البشري أكثر في تجربة فكرية عرفت باسم الغرفة الصينية، فقد افترض وجود شخص إنجليزي لا يعرف اللُغة الصينية في غرفة مغلقة، ويمتلك كتيب تعليمات باللُغة الإنجليزية، وتأتيه رموز من مَدخل صغير باللُغة الصينية، وهو لا يفهم اللُغة الصينية بالمطلق، لكن كُتب أمامه في كتاب التعليمات كيفية التعامل مع الرموز، فإذا كان المكتوب الرمز سين وصاد باللُغة الصينية، فعليه أن يكتب في المقابل حسب التعليمات باللُغة الإنجليزية الجملة 1 و 2 ثم يرسلها خارج الغرفة، قد يتوقع الأفراد الذين هم خارج الغرفة أنّ هذا الشخص يعرف اللُغة الصينية لكنه لا يعرفها، هو فقط ينفذ التعليمات حسب كتاب التعليمات، ويشبّه سيرل هذا الشخص بعمل برمجيات الذكاء الصناعي التي تتعامل مع المعاني دون أن تعي معناها، وهذا يوضح الاختلاف الجذري بين عقل الإنسان وتلك البرمجيات.
شكل 58 رسم توضيحي يبين الغرفة الصينية، المصدر wikicommons.
إنّ آلية عمل العقل تبدو غريبة فهُنَاك مئات التجارب الغريبة عن طريقة عمل عقل الإنسان تجعلنا نتساءل عن سهولة برمجتنا وقولبتنا وحدودنا بعد أن نعيش في هذا العالم، لا يوجد إنسان عاش في مكان منفصل أو أتى من عالم آخر لنرى كيفية تصرفه وسُلُوكه وأفكاره وحدوده، لذلك نحن مكبلون بما لدينا ولربما لدينا ما لم نكتشفه بعد مثل مهارة الكتابة الجديدة على تاريخ الجنس البشري، تابع في فصل اللُغة لطرح هذه النقطة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.