كلمة أُنيبيات Microtubule هي تصغير لكلمة أنابيب، وإن كان الغشاء الخلوي هو جدار المنزل، فهذه الأنابيب هي أعمدة المنزل، والأُنيبيات هي شرائط ديناميكية تشكل هيكل الخلية وتمنح السيتوبلازم بعض الصلابة وبعض الشكل حتى لا تنكمش الخلية، وهي الطرق التي ترتبط بها المكونات لكي تسير من وإلى عُضيّات الخلية المُختلفة، فكيف للغشاء أن يرسل مادة معينة دخلت إلى النواة، أو كيف يحدث العكس، أو كيف تتم عملية نقل المواد بشكل عام في الخلية، كله يتم عبرها.

يتكون هذا الأنبوب من بروتين يُدعى تيوبولين، كل جزيئان متصلان من التيوبولين يكونان دايمر (ألفا تيوبولين + بيتا تيوبولين)، وهو اللبنة الأساسية لبناء الأنابيب، ويتم بناء الأنابيب وفق نظام مُحدد وهو وجود ألفا وبيتا من التيوبولين متراصين في دائرة مكونة من 13 بروتين على امتداد طولي، لاحظ 13 وحدة، لا 12 ولا 14، 13 كما لوحة العشاء الأخير كما في (شكل 20 تكوين الأنيبيات الدقيقة).


يبدو الأمر كما لو أنّ طوب من نوع 1 يتصل بطوب من نوع 2 ويتكون جدار، لكن الأمر مُعقَّد أكثر، فهذا الطوب ليس بطوبٍ تقليدي، بل بروتين مشوه الشكل يتصل ببروتين مشوه الشكل في فضاء ثلاثي الأبعاد تنشأ بينهم رابطة معينة، ويتم الترتيب بالترافق لآلاف البروتينات، بل والملايين لتشكيل هذه الخيوط الطويلة، ولو أنّ كل عملية تتم فكرنا بها بهذه الطريقة لعرفنا كم هي الخلية مُدهشة.

هُنَاك حركة في الأهداب والسياط تتطلب وجود مكوّن آخر يتيح الحركة وهو بروتين يدعى الداينين، إذ يسمح هذا البروتين للأُنبيبيات المتجاورة بالارتباط ببعضها ثم الانزلاق بطريقة متناسقة لتحدث الحركة في السوط وهي مثل السلسلة الموجية، إذ يقوم الجزيء الخلفي بدفع الجزيء الأمامي فتحدث عملية متسلسلة لتحدث الحركة ويتمكن هذا البروتين من مشي 220 خطوة في الثانية الواحدة!


شكل 20 تكوين الأنيبيات الدقيقة

رسم توضيحي10 بعض أنواع وأحجام الأنيبيات الدقيقة

هذه العملية مسؤولة عن عمليات كثيرة في الكائنات الحية، ففي بعض الأمراض إن حدث خللٌ ما في ذراع الداينين فإنه لن يحدث الانزلاق؛ ولن تحدث الحركة؛ ومن ثَمَّ سيموت الحيوان المنوي، ونحن نعلم أنّ الحيوان المنوي يحتاج إلى تحريك سوطه ليصل إلى البويضة، لك أن تتخيل أنّ خطأً واحداً سيُؤَدِي إلى فناء الجنس البشري، لا أعلم كيف تطورت هذه العملية المُعقَّدة في الحركة لتكون بهذا الاتساق وتُحدِث حركة على مدى كل الأنبوب دون أي خطأ في الـ 13 * 2 بروتين في مليون دائرة! تخيّل أنّ تطوير عملية كهذه نتيجة العشوائية يتطلب ما لا يقل عن مليون مليون احتمال يجريها بشري في مختبر وليس نتاج الصدفة في مستنقع من الماء، وفي حالة قيام إنسان عاقل نحن بحاجة إلى 60 سنة، أما في حالة المستنقع نحن بحاجة إلى 100 ألف سنة، ستموت كل الأجناس البشرية ولن يبقى لها أثر، هذا فقط للحفاظ على خطوة من خطوات حركة الحيوان المنوي المسكين.

ولو حدث هذا الخلل في المراحل الأولى من تكوين الجنين (خلل في الأسواط) لظهر خللٌ مسجل باسم مُتلازمة كارتاجنر Kartagener syndrome ويحدث فيها مضاعفات مثل عدم القدرة على التنفس بسبب عدم قدرة الرئة على التخلص من المخاط، ومشاكل في الأذن الوسطى وعقم عند الرجال والنساء، كما وتُسبب حالة مرضية تسمى بانقلاب وضع الأحشاء Situs inversus، وحينما نستعرض بعد قليل قاعدة الطفرات الجينيةGenetic Degeneration عند البشر التي تزيد فيها الأمراض عن 200 ألف مرض، ستفهم لماذا يعتبر هذا الرقم بسيطاً، فنحن بتنا نعرف أنّ أي نقص بسيط في وظيفة بروتين سيسبب أمراضاً لا حصر لها، بشكل عام للأهداب دورٌ عظيمٌ في الجسم وثَمّة مجموعة أمراض مرتبطة بمشاكلها تُسمى الاضطرابات الهدبية ولها دراسات واسعة وتُصنف كمُتلازمات مُنفصلة وهي كثيرة وعجيبة ومتنوعة [10].

بالإضافة لهذه الأنابين التي تكوّن الأهداب، هُنَاك أنابيب متحركة لها عمليات مُعقَّدة أكثر لأنها عبارة عن أعضاء حسية، إذ تستخدم كمستقبلات ميكانيكية وكيميائية وتساعد في عملية الشم والإبصار، أي أنّ الجسم يُعيد استخدام الأجزاء نفسها لتقوم بوظائف أخرى، وهذا في عالم البرمجة أو عالم الهندسة الصناعية يُسمى Reusability، وهي تنم عن تخطيط فائق للموارد، ولعلي أزيدك من الكنافة قطعة أخرى أنّ هذه القابلية لإعادة الاستخدام أعلى مما نتصور، فيمكن لأنابيب طويلة أن تتفكك في ثوان ويعاد تركيبها في ثوانٍ أيضاً، وهذه الخاصية الديناميكية أشبه ببناء حائط من 100 صف في ثوانٍ، وإعادة تفكيكه واستخدامه في مكان آخر، وهي أساس نقل المواد في مواضع الخلية المُختلفة، ولا تبقي الخلية هذه الأنابيب ممدودة طوال الوقت، لأنها تجعل الخلية صلبة أكثر من اللازم، وتجعل مواردها غير كافية، لذلك يجب عليها أن تُعيد استخدامها من موضع إلى آخر، ولهذا وجب تفكيكها ونقلها دائماً، ولك أن تتخيل سير العملية بالكامل، فهُنَاك آلات مسؤولة عن التفكيك، وآلات تمسك بالقطع المفككة، وآلات تنقل القطع وآلات تسلم القطع لتتجمع حسب المخطط، في حين وُجود مواد معينة يُؤَدِي إلى إيقاف كل العملية، فمادة مثل الكوليشسين تجعل التيوبولين لا يُربط ببعضه، وهو ما استُخدِمَ سابقاً كعلاج لالتهاب المفاصل، ويُستخدم اليوم في الطب بكثرة، بالإضافة لمادة التاكسول التي تُستخدم كعلاج للسرطان، وكلاهما مُستخلص نباتي.

بالإضافة إلى قدرة الأُنيبيات على مسك هيكل الخلية، فإنها تُستخدم كسكك حديد للحركة، سنتطرق إلى آليتها في فصل المسامات النووية، وهُنَاك آلية حركة لبروتين الكينسين إذ يتم الانتقال بالقفز وليس بالسير على سكة الأنيبيات، ويقفز البروتين في خط مستقيم، كما يأخذ هذا البروتين شكل الحرف Y مقلوب، فالقدمين لأسفل، ويقفز هذا البروتين على الخيط الرفيع كما يقفز البهلوان على خيط مشدود ويحمل فوقه بالونة كبيرة من الفجوات العصارية ينقلها من مكان لآخر كما في (رابط 3 آلية سير الكاينسين)!

رسم توضيحي 11 شكل الأنيبيات الدقيقة ممتدة إلى النواة


رابط 3 آلية سير الكاينسين

https://bit.ly/2RQ53Vd

هُنَاك نوعان آخران من الأُنيبيات أو الخيوط أو الألياف الصغيرة، وهما الخيوط المتوسطة والخيوط الدقيقة، فالخيوط المتوسطة أكثر متانة من الأنيبيبيات الدقيقة وهي مسؤولة عن متانة الخلايا وتشكيل الهيكل الخاص بها، تسمى الخيوط المتوسطة بهذا الاسم ذلك لأن قطرها ١٠ نانومتر وقطرها يقع بين قطر الخيوط الدقيقة بسمك ٦ نانومتر والأنيبيبات الدقيقة بسمك ٢٥ نانومتر [10]، وإنّ عملية تنظيم الخيوط الدقيقة وتشييدها تتم عبر جهاز مستقل مخصص في الخلية يُدعى الجسيم المركزي (السنتروسوم) وهو الذي ينظم الأُنيبيبات الدقيقة حسب مُتطلبات شكل الخلية أو حركتها أو انقسامها.

أما الخيوط الدقيقة فتتكون من بروتين مُختلف يُدعى الأُكتين، وهو بروتين كروي الشكل، يمتلك آلية مُختلفة في تكوين الخيوط عن آلية بروتين التيوبولين الموجود في الأُنيبيات الدقيقة، كما وتكون هياكل العضلات، وللعضلات آلية هندسية مُعقَّدة في انقباض وانبساط خلاياها، وهي آلية يكرهها طلاب الأحياء، والأنيبيات الدقيقة واحدة من العناوين التي سنتطرق لها مرة أخرى في عملية النسخ والمضاعفة، وهي من المواضيع القليلة التي سنستفيض في توضيح عظمتها، لأنها من أبسط المواضيع، وهي تعد مثالاً على تعقيد أبسط جزئيات الحياة، أما مواضيع الخلية الأخرى فسنذكرها للاطلاع ولن نتعمق فيها.


اترك تعليقاً