هُنَاك محاولة أخرى نسمعها تقول أنّ الأخلاق غير مرتبطة بالدين، وأنّ ربط التدين بالأخلاق يُعد خطأ، ففي اليابان مثلاً لا فحشاء ولا منكر ولا رشوة ولا غش ولا فساد دون حفظة قرآن.

للأسف، إنّ هذا الكلام كلامٌ إنشائي، لأننا حين نفككه سنتوصل إلى أنه لا معنى للأخلاق دون دين، فمنبع الأخلاق هو الدين، وإلا لعاش الناس كما يرونه سائداً في مجتمعهم، فلو كان سائداً أنّ البيض أفضل من السود، سيسود هذا الأمر كما رأينا وكما نرى الآن، ولو وافق البرلمان على فكرة اليوجينيا وقتل أو خصي باقي الناس لكان الأمر عادياً وهذا ما كان شائعاً قبل 70 عاماً، ولو صدّق البرلمان على قانون يبيح للقوي أكل الضعيف لفعله الناس، ما دام أنّ القانون أو العُرف يسمح بهذا فما المُشكِلة، ونرى العالم المادي يطالب بحُريّة مُمَارسة الجنس مع الأطفال بل ومع البهائم وما يمنعهم إلا الإرث الديني لدى الدول، وكذلك طلبات الجنس مع الألعاب وتبادل الزوجات وغيرها من الأفعال التي لا يتقبلها الأسوياء جراء الدين، وقد ناقشنا هذه النقاط في فصل الأخلاق في الفلسفة.

نقطة أخرى وهي حينما يقوم شخص بلا دين باتباع مبدأ عدم السرقة فهو غالباً يفعله خوفاً من القانون، ولو كان هُنَاك ثغرة في القانون يُمكنه استغلالها لما توانى عن السرقة، فما المانع إن كان القانون نفسه يشجع على السرقة فزيادة في الخير، لأن المعيار هو القانون وليس المبدأ نفسه.

في الدين أنت تلتزم بعدم السرقة بسبب المبدأ، لا خوفاً من القانون أو العُرف، في الدين أنت لا تكذب وذلك لأن الصدق من الأخلاق والأمانة من الأخلاق، ولكن دون الدين، الأمانة من القانون والقانون متغير، قبل 200 عام كان العالم يستعبد السود وكان الأمر عادياً جداً، ولكن الأمر لم يكن عادياً في الدين، وما زلنا نرى الرأسمالية تستعبد شعوباً كاملة ولا مُشكِلة في هذا لدى قوانين العالم.

الإحصائيات لا تكذب، فاليابان ودول أوروبا من أعلى الدول في العالم التي ترتفع فيها نسب الاغتصاب، بينما يعد الأمر نادر الحدوث في الدول الإسلامية، كما وتتصدر اليابان قائمة الدول التي ترتفع فيها حالات الانتحار، في حين الدول الإسلامية بعيدة عن الصدارة، فضلاً عن إدمان الكحول في اليابان وغيرها من مساوئ الأخلاق المنتشرة، وهذا يدحض فكرة أن العالم أفضل بلا دين، والأخلاق غير مرتبطة بالدين.

وخلق بسيط في الدين مثل الإحسان وحب الوالدين لا معنى له في القانون وحده، فالشاب بعد بلوغه الثامنة عشرة ينفصل عن أهله ويراهم في أفضل الأحوال كل شهر مرة، ونرى القصص الكثيرة التي يحدث فيها أن تعفن الأب واكتشف جثته ساعي البريد بالصدفة، ولكن هنا بسبب الدين، خلق مثل الإحسان أساسي، وأنت مُجبر (عن حب) أن تسأل عن أمك كل ساعة أو أقل إن أمكن، أخبرني معنى هذا الخلق دون دين، ما معنى الإحسان إلى الأهل في القانون، كيف سينص عليه؟ هل سيفرض كل أسبوع محاضرة على كل فرد في المجتمع حول بر الوالدين!

ما معنى الصدق دون دين، إذا رأيت المتهم هُنَاك في المحكمة بمساعدة المحامي يبحث عن كل مخرج قانوني سواء بالكذب أو بالاستجهال للخروج من إدانته، وحينما يسأله القاضي عن حادثة هو مجبر أن يجيب عليها لأنها مربط القضية، تراه يأخذ الحق الخامس للهروب من الإجابة، ونرى في الدين عكس ذلك تماماً، فأنت تصدُق ولو على نفسك، ولكن في الصدق المادي، أنت تصدق إذا كان يفيدك هذا.

وما معنى الاستقامة دون أخلاق إذا كان القانون يسمح للفتاة البالغة أن تمارس البغاء أمام أهلها، بل وتزورهم في الأعياد ويتبادلون الحديث دون الإشارة إلى بغائها، ونحن بسبب الدين لا يمكن أن نقبل هذا، أخبرني هل هُنَاك معنى للاستقامة والابتعاد عن الفحش دون دين! إذا كفل القانون الفحش فما الذي يمنعه، ما الذي سيمنع ظاهرة Nyotaimori أي تناول الطعام على أجسام العاريات إذا كفلها القانون، من يجرؤ على محاربة إهانة وقذارة كهذه غير الدين.

وبخصوص الإخلاص والصدق في النية، يذهب المُسلم منا ويمر على حانات الخمر وحانات القمار وحانات الجنس ولا يفكر أن يزورها، إنّ زوجته ليست هُنَاك، ولكنّ الله هُنَاك، إنه يستمد أخلاقه من خوفه من الله ورغبة بالضفر برضاه، ولكن من لا دين له يسترق ما يُمتع به نفسه فزوجته لا تراه، وحينما يقوم من لا دين له بتبديل زوجته مع صديقه أو يقوم بدعوته لمُمَارسة الجنس معها، ما الذي يمنعه من فعل هذا ما دام المجتمع يتقبل أو القانون يسمح أو لا أحد يراه! في الدين لو مارس كل الناس الرذيلة فلا تمارسها مهما حدث، والمقارنة ليست بين الدين وغير الدين، فقد يكون عابد الفرج ذا خلق، وقد يكون المُسلم ذا فحش، الفكرة في المبدأ الأخلاقي في غير الدين هو رؤية شخصية قابلة للتغير حسب المواقف يضعها مجموعة من الناس حسب آرائهم الخاصة، ثم يفرضونها على بقية الناس، أما في الإسلام فالمبدأ الأخلاقي ثابت لا يتغير حسب الحالات والمواقف، المبادئ الأخلاقية هنا لها مصدر أعلى، بخلاف المصدر البشري الذي لا ضوابط ثابتة فيه.

أتساءل ما معنى الرحمة والعطف والتسامح دون دين؟ ما دام المادي يقوم بدفع الضرائب فلماذا يعطف على الفقير، يدفع المُؤمِن الضرائب ويعطف على الفقير ويقف مع الضعيف، في حين أنّ المادية تشجع على القوة والبقاء للأصلح والانتخاب الطبيعي، ولا ضرورة لبقاء الضعفاء كما يرى نيتشه في كتابه نقيض المسيح أنّ الديانة المسيحية معيوبة لأنها انحازت إلى الفقراء وقللت من غرائز حفظ البقاء للكائن الأصلح، وأنها أفسدت العقول حين صورت لهم أرقى القيم البشرية على أنها خطايا وضلالات! أعطني أي خلق وسأريك أنه لا معنى حقيقي له إلا حينما تربطه بالدين، حتى الدول التي تدّعي أنها لا تهتم بالدين تجد أنّ سكانها لديهم إرث أخلاقي مصدره الدين سابقاً تتوارثه الأجيال، وكثير من الأفعال البسيطة كان يتوارثها الناس لمئات بل ربما آلاف السنوات.

لكنَّ الدين والقانون لا يشكلان رادعاً لمن يرغب بارتكاب جريمة، فالدين والقانون كابحان، الدين يخبره أنّ هُنَاك نار وعذاب وغضب، والقانون يخبره أنّ هُنَاك سجن وتعذيب وإعدام، ورأينا حالات كثيرة رغم صرامة وسيادة القانون، إلا أنّ الناس اندفعوا كالقطعان كاسرين بذلك كل الأعراف الراقية التي يتغنون بها، ولكن هُنَاك من يفعل الجرم بعد كل هذه التحذيرات ولا يبالي، في النهاية لا يشكلان رادعاً كاملاً، فهُنَاك من يمارس الرذيلة أو الشُذُوذ وهو مُسلم أو مسيحي، أليس هذا دلالة على خطب ما؟ مرة أخرى إنّ النقطة الأساسية في الدين لا تكمن في وجوب كبح الشر بشكل مطلق، بل في فكرة أنّ الدين يقول لك الشُذُوذ أمر خاطئ ولا يجب أن تمارسه، في ظل قانون يقول لك عادي ويمكنك ممارسته، الدين يحاول أن يثنيك وهُنَاك من لا يتعظ، أو يخاف من العذاب، الدين عامل حفاز وقوي في منع البشر من مُمَارسة مساوئ الأفعال، بالإضافة إلى وجود فكرة التوبة في الدين تجعل المرء مضطر أن يمشي باستقامة ومضطر أن يرد الحقوق في حالة أكلها، فتجديد لقاء الخالق يومياً ووجود مواسم التوبة والخوف من العذاب تجعل الإنسان يفكر دائماً في التكفير عن ذنوبه ويحاول أن يتحسن للأفضل، والمجتمع المثالي يمكن بناؤه بمبادئ الدين، والقيم السامية ليست محض خيالات كما يدعي منكرو الدين، بل هو صرح نحن بحاجة إلى بنائه حجراً حجراً أساسه الدين، ويصعب على غير المُؤمِنين بأخلاق الدين أن يتحاكموا إلى صيغ ومعايير أخلاقية مُشتركة بينهم، ويؤكد هذا ريتشارد دوكينز قائلاً: إنه لمن العسير جداً الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية [176].


اترك تعليقاً