لتدرك عمق المُشكِلة التي يمُرُّ بها المُسلمون، اطلب منهم جمع تبرعات لبناء مسجد، سترى الجميع يتهافت لبناء هذا البيت الذي سيدخلهم الجنة، أو اطلب منهم مشروع إطعام مساكين، سترى الجميع يحاول أن يكون في المقدمة، ولكن لو كان ينقص المدينة مستشفى أو مدرسة أو مستوصف فستجد الإقبال ضعيفاً، بل ولو كان ينقص المدينة أطباء، وطلبت منهم تبرعات لابتعاث طلاب للتعليم فلن تجد من يتبرع، والمُشكِلة هنا تعود إلى سوء فهمنا للدين.
فالدين مرتبط في وعينا بالمسجد أو بإطعام الفقير، وإرضاء الله متعلق ببناء بيت له، ومتعلق بأن من بنى بيتاً لله بنى الله له بيتاً في الجنة وهكذا، الخير غير مرتبط في أذهاننا بحاجة البلد إلى الأطباء، أو بحاجة المدينة إلى مكتبة عامة، أو حتى بحاجة الشباب إلى نادٍ لكرة القدم، وكُلّها أبواب خير، بل لو كان المسجد موجوداً وكافياً، والملعب غير متوفر، لكان الأثوب والأفضل هو بناء ما هو ينقص الشباب لتفريغ طاقاتهم بدلاً من إهدارها فيما لا ينفع، وهنا نرى عمق أزمة انفصامنا في فهم الدين وكونه أسلوب حياة شامل وليس مرتبطاً بالمساجد أو بالصلوات فقط.
صورة أخرى وهي صورة المُؤمِن المتجهم، المُؤمِن الجاد، المُؤمِن الصارم الذي لا يبتسم إلا نادراً، لأنّ الضحك والهزل والمزح والدعابة بل وحتى الغناء والشعر وغيرها كلها مرتبطة بقلة الدين، بل وكيف نفرح والأقصى مُحتل، وفي حين نقرأ في المقابل عبدالله بن الحارث يقول: ما رأيت أكثر تبسماً من رسول الله وعشرات الأحاديث بل وآيات القرآن عن أنّ الرسول كان سَمِحاً ضحوكاً يُمازح أصحابه ويعطف عليهم وكان بعيداً كل البعد عن الغلظة والفظاظة، وأنّ محاربة الفساد وواقع المُسلمين الأليم يتطلب العمل والكفاءة والإنجاز للخروج منه، وليس التجهم وإضافة النكد على كل من حولك، وأنّ فهم السلف ليس ملزماً لنا، في زمانهم وفي متطلبات حياتهم تطلبت منهم فهم الشرع بهذا الشكل، لربما، لكن نحن غير ملزمين، إنما نحن ملزمون بالصور العليا، بالمقاربات المثلى، ولكن للأسف إذا قلت لشخص متدين الآن قال الله تعالى، لرد عليك وقال كلامك صحيح إنّ الله يقول هذا لكن الله لم يقصد هذا، بل قصد الله هذا كما فهم السلف، وما نراه الآن أنّ الدولة الإسلامية مختزلة في عقول بعض الإسلاميين بتطبيق الحدود.
بل حتى من نعتقد أنهم علماء المُسلمين ويجب أن يكونوا الأكثر فهماً وعقلانيةً، كان كمٌّ منهم أسوأ مما نتخيل، فمنذ القرن السادس الهجري حتى القرن الثالث عشر هجري، كان في المسجد الحرام أربعة مقامات لكل مذهب، فقد كان أتباع كل مذهب يصلون صلاة خاصة بهم منفردة عن الآخرين، هذا في الحرم الأقدس، في المحيط الضيق له، فمقام للحنفية مقابل الميزاب، ومقام للمالكية قبالة الركن اليماني، ومقام للشافعية خلف مقام إبراهيم عليه السلام، ومقام للحنابلة ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، وتكون صلاتهم مرتبة فيقيم ويصلي أهل المذهب الشافعي، وحين يفرغون من الصلاة يقيم ويصلي الأحناف، ثم المالكية ثم الحنابلة، إلا في صلاة المغرب، فإنهم يصلون في وقت واحد، كل مذهب بإمامهم فتتداخل الأصوات ويحدث من السهو واللغط الشيء الكثير [179]، إلى أن أنهى الملك عبد العزيز آل سعود هذا السُلُوك، فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن حتى في قلوب الكهنة.
صورة 37 مقامات الصلاة في الحرم.
وقد رأيت شاباً ملتحياً يلبس الجلابية في البرد الشديد، ولم يفكر في ارتداء معطف أو ما شابه، فقلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، وتفكرت وقلت في نفسي، لو كانت السنّة في اللبس والمظهر لكان أبو جهل (أحد أعداء الرسول) أقرب الناس إلى سنة الرسول، فهو كان يلبس ما يلبس الرسول في زمانه، ويأكل أكله ويقوم بالكثير من السُلُوكيات اللازمة للحياة اليومية كما كان يفعل الرسول، ولكان أبو جهل متمسكاً بالسُّنة أكثر من كل المُسلمين اليوم، فكم مُسلم يتجمر ويستخدم الحجر في زماننا هذا!
ولكن السنة النبوية ليست هذا، السنة النبوية أن نلبس ما يناسب زماننا ما لم يخالف شريعة، وأن نستخدم الجوال والحاسوب والكرسي والسيارة وكل ما في حياتنا بضوابط لا تُخالف جوهر سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد ظهر هذا الجهل جلياً في أحكام وعادات كثيرة، مثل حكم الجلوس أو الدوس على القبور، والذي يعتبره المُسلمون من المحرمات، فقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أنّ علي بن أبي طالب كان يتوسد القبور ويضطجع عليها، وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنهما يجلس على القبور، وذهب المالكية وبعض الحنفية وزيد بن ثابت ويزيد بن ثابت أخوه وغيرهم إلى جواز ذلك، وحملوا الأحاديث وما في معناها على الجلوس لقضاء الحاجة على القبر، قال البخاري في الصحيح وقال عثمان بن حكيم أخذ بيدي خارجة فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمه يزيد بن ثابت قال: إنما كره ذلك لمن أحدث عليه، وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنّ زيد بن ثابت قال له: هلم يا ابن أخي، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر لحدث بول أو غائط، وعلى ما يبدو أنّ الجلوس على القبور أمر عادي، ولكن الخوف من التبول عليها للمصلحة، أو لربما يختبئ فيها عقرب أو أفعى فيحدث ما لا يُحمد عقباه.
وقضية القبور هذه تشبه قضية دق الكؤوس التي يعتقد المُسلمون أنها حرام، وهي ليست مبنية على حديث ولا أصل لها في السنة النبوية، وهو تحريم متأخر ظهر في القرون الأخيرة، وكان الغزالي قد أجاب عن هذا السؤال في ظروف معينة بأن التحريم ينتج من تشبه ظاهر بعادات شراب الخمور.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.